.......................................................................................................... بقلم: كمال ياسين الغزي
تجلس فتاة فرنسية بثياب البحر ، وفوقها مظلة على شاطىءالرايفيرا الفرنسي، وبيدها كتاب ، تقرأ فيه بنهم ، تحس بذلك عندمت نجدها تحدق فيه باهتمام ، فإذا مـرّ بجانبها أحدٌ لتعيره انتباها لأنها مأخوذة بما تقرأ ، ولو سألتها عما تقرأ لأجابنك : أقرأ كتاب ألف ليلة وليلة ، ولو وجهت لها سؤالاً آخر ماالذي يشدك ويستأثر بانتباهك ؟ فإنها ستجيبك بكل تأكيد : لأنه كتاب بغاية الامتاع ن وعندما يقرؤه قاريء ، سيشعر بما كانت تشعر به الفتاة الفرنسية، فهو كتاب ينقلك الى عوالم مختلفة، كل عالم فيه يثبر الدهشة والغرابة ، ويلوّن أحاسيسك فينقلها من شعور إلى آخر مختلف ، حبوكره ،وشعور بالعظمةوالاستغراب ،وخروج من عالم رتيب إلى عوالم تثيرالخيال وتطرب ، وتُعجب ،وهذا مايسم الكتاب من أوله إلى أخره ، برغم تعدد الأشخاص الذين كتبوه ، وتعدد العصور التي كُتب فيها ، فإنك ستدخل به الى قصور الملوك المزينة جدرانها بالذهب ، وسقوفها بالفضة وتستر أرضها الطنافس البديعة والزرابي المبهرة ، وعرش الملك المصنوع من الأبنوس ، والمزين بالعاج ، والملك جالس على عرشه وحوله الإماء اللواتي يتقن الدل والغنج ويقرضن الشعر ، والوزير ، والمنجم كل هذا ستحس به، أو تتخيله وأنت في حضرة الملك ، وستعيش غدر النسا ءومكرهن وذكائهن ، وسيطرتهن ، بأساليب خفية على ألباب الرجال ، مما يوحي لك بسوء ظن الرجل بالمرأة ، والاعتراف بذكائهن المفرط في آن معا ، فإذا غادرت القصور الى الصحراء وعايشت البداة ،وغاراتهم واعتراضاتهم سبل القوافل التجارية وسلبهم وسبيهم للنساء والولدان ، لرأيت كيف تصبح الحرة الشريفة أمة تُباع وتُشترى ، ويستمتع بها البدوي ماشاء ، بلا عقد ولا مهر ، وكيف تتعايش مع الوضع الذي انتقلت إليه ، وقد تؤول الى مالك جديد بعد أن تُباع وقد يكون أميراً أو ملكاً ، وكيف تنجب منه ، ومن سيكون خلفاً لملك أو أمير.ثم إذا ذهبت إلى علاء الدين وبساط الريح الذي ينقلك من مدينة إلى أخرى، ومن صقع إلى صقع مختلف بلمح البصر ، شعرت بلذة الرحلة واكتشاف المجهول ، كمن يركب طائرةفي زماننا تنقله من قارة إلى قارة تختلف في أنماط شعوبها ، وطرتز معيشتهم ، أما إذا فرك علاء الدين فانوسه السحري ، خرج منه دخان كثيف يشكل عفريتا ، فأبدى كالعبد فروض الطاعة ، والخدمة لسيده ، عندها تشر بعظمة الانسان وقدرته الخارقة ، وترى في عالم العشق صنوف التضحية ، وركوب المخاطر ليظفر العاشق بمعشوقته ، وكيف ينثر الذهب والجواهر ن ويقدم الحرير المزركش ، مما يشعر الفتاة الفرنسية التي ذكرناها آنفا ، وكأن ما قُدم ونُثر وُضِع في حجرها .
وإذا ما تركت هذا العالم وولجت في غابة ترى فيها ضروب الحيوانات تتكلم بلسان
عربي مبين ، ولها حكمة بالغة ، ومبادىء قيمة ، وسعي لبلوغ الغايات ، وكأنك أمام شعب آدمي ، لا يختلف فيه الطير والحية ، والأسد ، والفيل عما لقيت من علماء، وحكماء ، وقادة ، في عالم البشر .
ثم تنتقل إلى عالم المغامرة ، والبحث عن أكسير الحياة ، وعن النبات السحري الذي يرد مريضا من أبناء الملوك ، بعد أن أشفى على الموت ، إلى الصحة ، والقوة ، وكأنه لم يصبه المرض العضال الذي أعجز الأطباء .
وتخالط بعد ذلك التجار ، وعالم الأرباح وترتحل معهم ، وتدخل في مدينة فتبيت في خان ، وقد يكون معك فيه ملك متنكر ، أو عالم يبهرك منطقه ، أو صعلوك محتال بمظهر متعال ، ثم يسرق دنانير التجار بحيله الماكرة ، وأساليبه الخبيثة ، فضلا عما تسمع من حكايا التجار في حلهم وترحالهم ، وما تعرضوا له من حوادث غريبة ، ومشاهد غريبة .
ثم تدخل إلى عالم الجن ، والسحرة ، فتجد جنية تعشق أنسيا فتتلبسه فيصاب بمس
يجعل زوجته تعافه ، وتنفر منه ، ثم تتبدى له الجنية ،بأجمل صورة ، وأبهى مظهر فتغريه بماذي الحديث ، والمظهر الفاتن ، فتسلب لبه ، فيقع فيها ، ثم يكتشف أهلها من أبناء الملوك ، حالها معه ،فيسجنونها ، ويبحث عنها عاشقها دون جدوى ، وبكثير من العذاب ، وركوب المخاطر ، ثم يهتدي إلى ساحرة ، تهديه لها ، وكيف يسرقها بحيلة ويمضي بها إلى حيث يجد مأمنا ، يستعصي على الجن ولوجه .
وأثناء تجوالك في تلك العوالم تتعرف على علم الفلك آنذاك ، وكيف يستخدم للتنجيم ومعرفة ما سيكون في المستقبل عن طريق ، مسالك الكواكب المحيطة بالشمس وبروجها ، وما سيحصل لمن يولد في شهر معين ، وتأثير الكواكب ليس على مزاجه فحسب ، بل وعلى ما يتعرض له في حياته ، فضلا عن (حساب الجمـل) , واقتران كل حرف من الأبجدية برقم حسابي ، فيستعمل ذلك في حساب عمر الإنسان ، وغير ذلك . فإذا انتهت رحلتك في الكتاب ، شعرت وكأنك صاحبت ابن بطوطة في رحلاته ، وكلكامش في مغامراته ، والمقريزي ، في خططه ، وإخوان الصفا ، أو كليلة ودمنة في استنطاق الحيوان ، والهمذاني ، في وصفه الكدية ، واحتيال أصحابها . هذا الكتاب الذي بهر الناس في الغرب ، والشرق معا ، وكان اهتمام الأوربيين به كبيرا فقد ترجمه أنطوان كالاند(ت – 1751 ) إلى الفرنسية , وترجم عنها إلى اللغات الأخرى فذاع صيته ، واشتهر ، ولقد ذكر أن الفيلسوف الفرنسي( فولتير ) لم يتصد للكتابة إلا بعد أن قرأ ذلك الكتاب أكثر من عشر مرات ، وتمنى أحد الكتاب الفرنسيين أن ينمحي من ذاكرته ذلك الكتاب ، ليعيد قراءته بمثل المتعة الأولى التي أحدثها فيه (1) غير أن الكتاب كتب بلغة مختلطة بين العامية والفصحى ، وفيه من الشعر الجيد ، والركيك ، وتستطيع أن تتلمس فيه لغة البغداديين زمن الرشيد ، وتعيش أجواء دمشق ، والقاهرة ،والإسكندرية ، إلا أن الأثر البغدادي فيه أوضح، وأشمل للياليه، مما جعل بعض الكتاب، يزعم بأنه كتاب بغدادي بامتياز (2)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) :التطور اللغوي التاريخي ص151د. ابراهيم السمرائي- دار الأندلس ط3 -1983
(2) : المصدر السابق ص 154
وقد أشار علي بن الحسن المسعودي(ت346 هـ ) في كتابه مروج الذهب إلى أن ألف ليلة وليلة ترجمت أصوله عن كتاب بهلوي اسمه ( الهزار فسا نه) ومعناها : (الألف خرافة) ولكن الناس يقولون ألف ليلة وليلة .
ثم أخذ ابن النديم ذلك عنه ، وذكره في كتابه ( الفهرست ) ، ولكن أحدا من القدامى أو المحدثين لم يقع على كتاب (الهزار فسانه ) (1) مما زاد الأمر تعقيدا ، ولا بد لكي تؤخذ مادة الكتاب وأصوله عن كتاب آخر ، أن يكون هذا الكتاب مما قرأه ، واخذ عنه كل من كتب في ألف ليلة وليلة ، في أطواره المختلفة ، وعصوره المتتابعة ، وهذا مستبعد لأنه أختص بذكر هذا المرجع المسعودي، وأخذ عنه ذلك ابن النديم ، و( الهزار فسانه) غير معروف ، لأي ممن كتب ، واكتملت الألف ليلة وليلة في عصور متباعدة ، والكتاب الأصل غير موجود ، ولا معروف ، بينما يزعم المسعودي بأن ( الألف خرافة) مكتملة في( الهزار فسانه) ، وكالا ند الذي ترجم ألف ليلة وليلة إلى الفرنسية عن مخطوط عربي يرجع إلى القرن الرابع عشر الميلادي ، ولعل الحكايات الهندية ، والفارسية ، مضافا إليها الحكايات العربية مما ابتكره خيال القصصاصين، أو استلهمه من الواقع العربي ،هو المصدر الحقيقي دون أن نعزو ذلك إلى كتاب معين ، فأثر العراق فيه واضح جدا ، ويشتمل على أكثر حكاياته ، ثم بلاد الشام ومصر ،والأتراك ، فهو تراث شعبي إسلامي من أوله لآخره ، ففي الحكاية الأولى منه تجد شهرزاد تقول لأبيها(بالله عليك يا أبي، زوجني هذا الملك ، فإما أن أعيش ، وإما أن أكون فداء لبنا ت المسلمين) وتجد معرفة ألسن الحيوان من القرآن ( وعلمنا منطق الطير )( وقالت يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده) ( وحديث الهدهد للملك سليمان) (2) وفي حكاية الحمار والثور التي هي جزء من حكاية الملك شهريار وأخيه الملك شاه زمان ) وهي الحكاية الأخيرة من الكتاب تجد ( ومن حسن تقواه كان يخلع الخاتم من إصبعه إذا أراد أن يجامع , احتراما للأسماء الشريفة المكتوبة عليه فلا يلبس إلا على طهارة ) وفيها قوله : ( أراحك الله في الدنيا والآخرة ) ثم لا تأتي إلى حكاية إلا وترى فيها أثرا إسلاميا , أو تحكي عن حدث في بلاد المسلمين في زمن الخلفاء والسلاطين المسلمين , والأسماء عربية ) أو إسلامية فيها جزء عربي , ولذلك لا يمكن السؤال : هل هذا التراث عربي , بحت أم شرقي عام ؟ فنقول إذا أمكنت الإجابة على هذا السؤال بهذا التحديد , علينا أن نجيب على أسئلة كثيرة تخص هذا الأمر , فهل كتب الحديث , والتفسير , والفقه تراث عربي بحت أم شرقي عام ؟ والجواب على ذلك , بل هو تراث إسلامي تكون صانعوه تكوينا عربيا , وتثقفوا بثقافة العرب , فأنتجوا ثقافة يمكن أن تسمى ثقافة عربية بمادتها , وإسلامية بعناصرها المكونين لها من أعاجم .
أما الموسوعة العربية الميسرة ( تحت مادة ألف ليلة وليلة ) ذكرت أن ألف ليلة وليلة هي مجموعة : منوعة من القصص الشعبي العربي ، بلغة بين الفصحى
(1): الموسوعة العربية الميسرة مادة ألف ليلة وليله
(2): سورة النمل
والعامية ، يتخللها شعر مصنوع ، أكثره مكسور ركيك في نحو من مائة واثنتين وأربعين مقطوعة , ونسخها المعروفة هي : المعروفة هي : كلكتا الأولى , ثم بولاق ( 1251 هـ ـ 1931م ) ثم كلكتا الثانية , ثم برسلا , ثم بولاق الثانية ( 1279 هـ ـ 1901 م ) ثم طبقة دار الهلال الخاصة المهذبة , الصادرة في القاهرة حديثا دون تاريخ وجاء في مقدمة طبعة دار الهلال ما خلاصته ،أن المستشرق( ملر) انبرى لبحث تاريخ ألف ليلة وليلة , فكان بذلك أول من فطن إلى أنه يتكون من طبقات , وأخذ المستشرق بنظرية الطبقات , وفصلها تفصيلا , ثم وضع مقاييس للموازنة بين هذه الطبقات , تتميز كل طبقة عن الأخرى وقسم قصص الكتاب إلى ثلاث طبقات :
الأولى : نواة الكتاب وتشمل : القصص التي أخذت من كتاب ( هزار فسانه )
والثانية : التي وضعت في بغداد .
والثالثة : التي أضيفت في مصر , ثم قال : وهناك طبقة رابعة أضيفت في عصور متأخرة .
ومن قصص الطبقة الأولى : قصة الملك شهريار , وأخيه شاه زمان , والتاجر مع العفريت , والصياد والجني , والحصان المسحور , وسيف الملوك , وقمر الزمان وأزدشير , وحياة النفوس .
ومن قصص الطبقة الثانية : تلك التي يرد فيها أسم ( هارون الرشيد ) , ( وأبي نواس ) , ( وأبي دلامه ) , والقصص التي تتناول حياة الجواري , ومجا لس الأنس والطرب وحكايات الحب والغرام , والقصص التي تصف الحضارة العباسية , كقصة ( المعتضد مع أبي حسن الخرساني ) وقصة السندباد البحري .
ومن قصص الطبقة الثالثة : حكاية الوزيرين ( نور الدين وشمس الدين ) ومزين بغداد وعلى بابا والأربعين حرامي , وعلاء الدين , ومعروف الإسكافي (1) ونرى أن هذا الذي ذهبت إليه الموسوعة رأي توفيقي بين ما ذهب إليه المسعودي , ومن قلده , وبين واقع الكتاب وفي المنجد في اللغة مادة ألف ليلة وليلة :
.... ترجم ( الهزار فسانه ) فيما بعد على الأرجح في زمن هارون الرشيد : أي في أواخر القرن الثاني الهجري , أو خلال القرن الثالث الهجري , ثم نمت الحكايات في بغداد مرة أخرى متخذة من الحكايات الهندية والفارسية مادة لها خلال القرنين الميلاديين الثامن , والحادي عشر , عندما انتقل هذا الكتاب إلى مصر تحت عنوان ( ألف ليلة وليلة ) , وراحت هذه المجموعة تتزايد في مصر وسورية وتتطور وتكتمل حتى اكتسبت خلال القرن الرابع عشر الميلادي صيغة التأليف الفني بالمغزى , كما أضيف لها نوادر أخرى , وأساطير , ومغامرات عجيبة , ولقد أسهم في تكون ألف ليلة وليلة كل من الهند , وفارس , والعراق , وبلاد الشام , والأتراك وعلى هذا فإن هذه الحكايات تمثل تراثا فريدا لمجموعة من الأمم الشرقية , فهي تتحدث عن الهند , والشرق الأدنى , بأسره من خلالها , لمن يطالعها , كثيرا ما أمكن تحديد أثر كل بلد في هذه الحكايات , فإن أصلها الهندي الإطار , يمثل الفن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1): الموسوعة العربية الميسرة مادة ألف ليلة وليلة
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق