كتب الأديب / الأديب / كمال ياسين الغزي
نزار قباني 1923-1998م في ذكرى رحيله السادس عشر
أكاد أجزم أنه ما من شاعر
ملأ الدنيا وشغل الناس بعد أبي الطيب ، الا الشاعر نزار قباني ،
وما من شاعر ظُلم في
حياته وفُهم خطأ
كنزار قباني ، وما من شاعر توالت
عليه الخيبات والفجائع كما توالت على نزار ، من انتحار شقيقته (وصال) الذي أثرفيه
كثيرا وكان يومها صغيرا ، مرورا بمقتل زوجته العراقية بلقيس ، وكانت ثالثة الأثافي
وفاة ابنه( توفيق )الأمير الدمشقي كما كان يحلو له أن يناديه ، وهو لم يتجاوز
بعد السبعة عشر ربيعا ، ورابع الخيبات
وأمرّها نكسة حُزيران ، وقس على ذلك .
كل الذين تحدثوا عن
شعر نزار لم يفهموه إلا من خلال السطح . لم يغوصوا في أعماقه ، ظلموا الشعر وظلموا الشاعر أكثر ، كل من كتب عن
نزار على مدى نصف قرن كان متطرفا ، إما نحو اليمين ليتهمه بأنه خرق /تابو/ وحضّ
على نشر الفسق والفجور والفاحشة ، وهم الفئة الأكبر ، أما الفئة الثانية فاتهمته
في عروبته وبأنه شاعر المرأة الذي يقضي
معظم أوقاته في الصالونات مع المجتمع المخملي ، ويعاشر الفاتنات ويكتب عنهن ، حتى
صديقنا الشاعر اللبناني الكبير الدكتور (خريستو نجم) ، الذي قدم أطروحة
لنيل شهادة الدكتوراه بكتاب وسمه ب /النرجسية
في أدب نزار قباني /، تناول فيها هذا الشاعر الذائع الصيت من خلال التحليل النفسي للأدب ،
وواقع الحال أن (نزار
قباني) بدأ يكتب الشعر مبكرا في منتصف القرن الماضي ، ليفرّغ بعض شحنات ثورته
وتمرده على عادات مجتمع ذكوري نرجسي ظالم من
جهة ، ومن جهة أخرى فقد كان نزار عاشقا للحرية من الطراز الأول ، فيوم كتب نزارعام 1954 من لندن قصيدته ( إلى أجيرة )
لم يكن يقصد منها الا تعرية المجتمع الذكوري وأنانيته تُجاه ضعف الكائن الذي يشكل
نصف المجتمع والذى وصى به نبينا الكريم فقال : (اتقوا الله بالضعيفين المرأة
واليتيم ) وما ذلك المخلوق الرقيق إلا المرأة ، وصف (نزار) في قصيدته ضعاف النفوس
وكيفية استغلالهم للحاجة ، من خلال إغراء رجل لخادمة تعمل لتقتات فقال :
(بدراهمي .. لابالحديث
الناعم ... حطمت عزتك المنيعة .. ذهب وديباج وأحجار تشع فقاومي ..
أي المواضع منك لم
تهطل عليه غمائمي ..
خيرات صدرك كلها من
بعض بعض مواسمي )
لم يكن يقصد الإثارة ،
إنما أراد الإشارة إلى عنجهية الرجال وتسلطهم حيال احتياج امرأة لعيش كريم .
كذلك فعل يوم
اخترق /تابو/ لا لنشر الفاحشة ، إنما
لتعرية مجتمع ظالم ضاغط على المرأة حتى أنه لم يكن يسمح لها بالتنفس ولو برئة
واحدة ، كل شيء ممنوع عليها وحرام ، وكل شيء مباح للرجل وحلال ، هذا التضييق أدى
الى الحرمان ، وحين وقعت المرأة تحت وطأة الحرمان ، كان لا بد من طريقة للارتواء
حتى ولوكانت الطريقة / شاذة/ ومختلفة ، فجاءت / القصيدة الشريرة / والتي يكشف فيها
عن مرض اجتماعي انتشر بين الفتيات والنساء ألا وهو / السحاق/ أو ما كان يسمى آنذاك
ب/ الحبلاسة / أو / بنات العشرة /
يقول (نزار) مُعريا
المجتمع ومُتهما إياه بأنه السبب المباشر لهذا المرض ، بجرأته المعهودة يصف هذه
الحالة :
مطر، مطر وصديقتها
... معها ولتشرين نواحُ
والباب تئن
مفاصله ..... ويعربد فيه المفتاحُ
شيء بينهما يعرفه .....
اثنان ، أنا والمصباحُ
وحكاية حب لاتحكى ..
في الحب يموت الايضاحُ
وحوار نهود أربعة .....
تتهامس والهمس مباحُ
أحرام أختاه اذا ما ...........لثم
التفاحَ ... التفاحُ
نحن امرأتان قمم .
............ ولنا أنواء ورياحُ
أتُراني كُونت امرأة...كي
تمضغ صدري الأشباحُ
أليس في
هذه القصيدة تعرية لمجتمع كان يتباهى بالعائلات
وبالأحساب والأنساب والفوارق
الاجتماعية ، والمهورالغالية لبيع البنات ولايهم من يكون الزوج مادام /ذكرا/ كان
المجتمع أو أكثره - على الأقل حتى لا أقع بالتعميم في ذلك الزمن - لايقيم وزنا لقيم
أو دين أو أخلاق ، لقد تناسى ذلك المجتمع
المتدين ما يقوله رسول الله / ص / : اذا
جاءكم من رضيتم دينه وخلقه فزوجوه /
ولن أتحدث عن قصيدة /خبز وحشيش وقمر / التي جعلت
رجال الدين يكفّرون الرجل ويطالبون بفصله من عمله بوزارة الخارجية السورية آنذاك ،
ولا عن قصيدة /المذبحة / والتي يقول منها :
كنا ثمانية نتقاسم
امرأة جميلة ، كنا عليها كالقبيلة / كنا نعبر عن فحولتنا.. فياخجل الفحولة / حتى الحيوانات والدنيا منها بشكل خاص ، وحتى
الخنازير لايجتمعون ثمانية على
امرأة ولكن الانسان
لخسته يفعلها، نزار فضح كل هذه الممارسات القذرة وكان جزاؤه التكفير ونعته بنعوت
يخجل الإنسان أن يرددها .
ولنكتفِ بهذا القدر من
الجانب الاجتماعي ، علما أنه غيض من فيض ، لندخل الى وطنية الرجل وعروبته اللتان أُتهم
بهما بالعمالة والخيانه ونُعت بأبشع النعوت ، وهو الذي عشق وطنه الأم دمشق وسوريا والأمة العربية قاطبة ، خدم نزار وطنه أيام كان يعمل
في السلك الدبلوماسي ، وللانصاف وللحقيقة فقد تعلمتُ من هذا الرجل حب المدن منذ
نعومة أظفاري فأحببت مديني حمص كما أحبَّ هو دمشق ويمكن أكثر ، وليس أدل على حبه
لها من ذكرها في جل قصائده أليس هو القائل
فيها
/فرشتُ فوق ثراك
الطاهر الهدبا فيادمشق
لماذا نبدأ العتبا ؟
حبيبتي أنت فاستلقي كأغنية
على ذراعي ولا تستوضحي
السببا أنت النساء جميعا
ما من امرأة أحببت
بعدك الا خلتُها كذبا /
ولا أنسى عروبة الرجل
التي تفيض صدقا في فضح سياسات الحكام العرب وتنبيههم للخطر المحدق بكل البلاد
العربية ، وكشف أساليبهم وفضح الشعارات
الرنانة التي كانت أبواق النظم تصم آذان الشعوب بها، ويكأني أراه قدرأى مايحدث
للأمة العربية اليوم منذ زمن بعيد ، وهل الشاعر إلا استشراف للمستقبل ؟! فحين وقف
في مهرجان بغداد الشعري عام1968فيما أذكر - وقد تخونني الذاكرة - رأى جليا ما سيحدث للأمة في قابل الأيام وحذر
منه فبدأ قائلا :
مرحبا ياعراق جئت
أغنيك
وبعض من الغناء بكاءُ
أَكلَ الحب من حشاشة
قلبي
والبقايا تقاسمتها
النساءُ
وبعد هذه المقدمة
الطللية التي حيا بها العراق ووصف نساءه بالفتنة والجمال وقد / تزوج منهن بلقيس / بعد الوصف والغزل بدأ بكشف ممارسات السلطات
، وكيف أنها تجعل من المفكرين والمبدعين
أبواقا لها ، بالترغيب أو الترهيب فقال منها أيضا :
واذا أصبح المفكر بوقا
يستوي الفكر عندها
والحذاء
يصلب الأنبياء عند رأي
فعلام لا يصلب الشعراء
ثم ينتقل لكشف زيف
الشعارات التي ترفعها النظم العربية آنذاك كالوحدة والحرية والاشتراكية فيقول منها
ساخرا من النظم :
وحدويون والبلاد شظايا
كل جزء من لحمها أشلاء
ماركسيون والجماهير
تشقى
فلماذا لايَشبعُ
الفقراء
لايمين يجيرنا أو يسار
تحت حدّ السكين نحن
سواء
هذه هي الرؤية
المستقبلية لكل مبدع حقيقي وأصيل ، ونزار احترف السياسة بامتياز ، وكان شعره السياسي
فاضحا كاشفا لكل كذب وافتراءات النظم العربية آنذاك على شعوبها ، سلطات جائرة
ديكتاتورية مستبدة ، ولعل ولع نزار بالحرية وعشقه لها ، جعل السلطات وأبواقها يلفقون له ألف اتهام
واتهام منها تكفيره ، واتهامه بالخيانه ، ولكنه يدافع عن نفسة بالقصيدة عينها فيقول
:
زعموا أنني طعنت بلادي
وأنا الحب كله والوفاء
أنا حريتي ، فإن
سرقوها
تسقط الأرض كلها
والسماء
كل حرف كتبته كان سيفا
عربيا يشع منه الضياء
أنا جرح يمشي على
قدميه
وخيولي قد هدّها
الاعياء
لبلادي شعري ولست
أبالي
رفضته أم باركته
السماء
ولم يسْلم تجار النفط وحكامه الذين يقضون أبهى
الليالي الحمراء في أوروبا وأمريكا في الملاهي الليلية وعلى موائد القمار ، وفي الصالونات المخملية مع بنات الهوى
والغواني ، يصرفون فيسرفون بلا حساب من
مال الشعب وخيرات بلاده المنهوبة، فقد عراهم حتى من ورقة التوت التي كانت
تستر عوراتهم في قصائده كقصيدة / هجم النفط
كذئب علينا / والتي منها :
قد تساوت كل المشانق
طولا
وتساوى شكل السجون
لديه
لايبوس اليدين شعري
وأحرى
بالسلاطين أن يبوسوا
يديه
وفي قصيدته : ( الحب والبترول)، كذلك عراهم يوم
وقف في مهرجان تونس ليقول بحرقة وألم
ياتونس الخضراء جئتك
عاشقا
وعلى جبيني وردة وكتاب
إني الدمشقي الذي
احترف الهوى
فاخضوضرت لغنائه
الأعشاب
في عصر زيت الكاز يطلب
شاعر ثوبا وترفل بالحرير قحا
ب وكان للشاعر وقفات
مع الزعيم الراحل جمال عبد الناصر فقد كتب نزار لعبد الناصر أربع قصائد ، الأولى
بعنوان / رسالة الى عبد الناصر /يقول في مطلعها
:
والدُنا جمال عبد الناصر
عندي خطاب عاجل اليك ،
والنص طويل فمن شاء فليرجع اليه . والقصيدة الثانية التي كتبها نزار قباني في عبد
الناصر كانت في /ذكرى ميلاد عبد الناصر
يقول في مطلعها :
زمانك بستان وعصرك
أخضرُ
وحبك عصفور من القلب
ينقرُ
دخلتَ على تاريخنا ذات
ليلة
فرائحة التاريخ مسك
وعنبر
تأخرت عن وعد الهوى
ياحبيبنا
وماكنت عن وعد الهوى
تتأخر
سَهِدنا وفكّرنا وشاخَت
دموعُنا
وشابت ليالينا وما كنت
تحضر
والقصيدة الثالثة /
قتلناك ياآخر الأنبياء /ومنها
/ قتلناك يا آخر الأنبياء
قتلناك ليس جديد علينا
اغتيال الصحابة
والأولياء
فكم من رسول قتلنا /
والقصيدة الرابعة /
السيد نام/ ومنها :
/ السيد نام وكيف أصدق
أن الهرم الرابع مات /
نزار شاعر شغل الناس حقا
، فكُتبتْ فيه مئاتُ الكتب والدراسات والرسائل الجامعية على مدى نصف قرن من الزمن
الجميل ، وغنى له ثمانية مطربين عشرين قصيدة أشهرهم المرحومة أم كلثوم والراحل
المرحوم عبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة
وماجدة الرومي وكاظم الساهر وسفيرة الغناء العربي فيروز وآخرين .
خمسين عاما من عمره
قضاها حروبا ومعارك بين غربتين داخلية وأخرى خارجية ، وبين فجائع وخيبات متتالية
ولكنه منذ فقد (بلقيس) تغيّر طقسه النفسي وبان انكساره أكثر ، وحين فقد ابنه
/توفيق / الأمير الدمشقي كما سماه في قصيدة / الأمير الخرافي / الذي لم يتجاوز
السابعة عشر ربيعا ، انكسر نزار كليا ،
فغادر بيروت الى أروبا ليتجول في بعض عواصمها ، ثم ليستقر بعد ذلك في عاصمة الضباب
/لندن / ولمدة خمسة عشر عاما ، حتى وافته المنية يوم 30 / 4 / 1998 / فيها وبعد ذلك حُمل جثمانه بعد موافقة السلطات
السورية الى دمشق التي أحبها وأخلص في حبه لها
حتى النهاية .
رحم الله الشاعر
السوري الكبير رحمة واسعة فقد كان قامة سامقة جدا في سماء شعرنا العربي
الحديث ، قدر نرسيس وقدر بجماليون
ولكننا شعب بلا ذاكرة ، بلا وفاء ،
لانحترم أدباءنا وفنانينا عظماء هذة الأمة ، لقد خلف شاعرنا الكبير وراءه أكثر من
أربعين ديوان شعر والكثير الكثير من التساؤلات .
;
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق